Tag Archive | دمشق

الثورة السورية | من هو الزبون؟

Bilal

دمشق – 2001 في الوكالة الاعلانية

في مكتب بسيط يقع في جادة البزم في حي المالكي بدمشق كانت تقع وكالة اعلانية جيدة. أستطع القول أنها هي من أدخل مفهوم ادارة العلامات التجارية إلى سوريا. لكن في ذاك الوقت أيضاً من تاريخ سوريا الإعلاني كان هناك السيد ر. ع. الذي سرق من أديب خير CD عليها عرض تقديمي عنوانه Little China. تتحدث ديموغرافياً بطريقة بسيطة جداً عن التقسيم الاجتماعي في دمشق. عرض لا بد منه لدراسة العلامات التجارية وأسواقها و مستهلكيها.

ر.ع  لازال حتى اليوم في صف النظام. أديب خير توفي ، رحمه الله. و ذاك المكتب الاعلاني كان يقع بينهما. يدار بطريقة ذكية، ونسبياً ناجح.

بشكل مقتضب ذاك كان المشهد الاعلاني في دمشق حتى منتصف العقد الأول من هذه الألفية!

و اللافت جداً في الأمر أن أجهزة الاستخبارات كانت تمنع في سوريا اجراء الأبحاث الميدانية المتصلة بالمنتجات لفهم الأسواق. كان السؤال عن نوع الشاي الذي يفضله الناس أمراً يعتبر أقرب ما يكون للجريمة. على كل الأحوال كانت تتم تلك الدراسات و رغم ممانعة -طبيعية- للناس لها. فجميعنا تربينا في بيئة تخشى الأسئلة. الأسئلة في بلادنا مخيفة. من الامتحان حتى فرع الأمن و مروراً بسؤال الأهل “كيف عملت بالفحص؟!؟”

رغم ذلك كانت تتم تلك الدراسات، و كان يتم تبادلها مع فروع شركات الاعلان في قواعد للمشاركة تجعل من مدير علامة تجارية في الصين قادر على معرفة أذواق سكان دمشق في المشروبات. الساخنة، الباردة، الكحولية، الغازية و كل ما شابه ذلك.

القصة كلها تكمن في أن أي موظف عادي في “تل-أبيب” كان قادراً على معرفة تلك المعلومات أيضاً وَ -استخدامها. كل هذه المقدمة لشرح اشكالية تداول المعلومات في المجتمعات. بينما كانت اسرائيل تعرف ميول السوريين في شرب الشاي، عادات التسوق، قضاء الوقت، الدخل، كان السوريون أنفسهم لا يعرفون ذلك عن أنفسهم.

تخيلوا الآن معي اتساع مجال الرؤيا. تخيلوا معي تشارك السياح، الأقمار الصناعية، أعضاء غرف التجارة، المساعدات الدولية، العقود، برامج احصاء الطيران والسفر، و بالطبع قدرات التتبع على الانترنت. يبدو أن الخارطة النفسية للسوريين مكشوفة تماماً إذاً. أمام الكل سوى أمام السوريين أنفسهم. المكتب المركزي للاحصاء – صاحب حق الامتياز الوحيد و الحصري في اجراء مسوح ذات طبيعة عامة- كان المخول الوحيد بنشر أرقام غالباً غير دقيقة على الاطلاق بل و يتم تعديلها من وقت لآخر و أكثر من هذا لا تتناول الجوانب النفسية الاجتماعية.

هذه الشفافية المُعتِمَة باتجاه الداخل المشرقة باتجاه الخارج جعلتنا كمن يستحم خلف نافذة كبيرة مرآتها للداخل بينما يراه الجيران من الخارج.

ذات الأمر تمامأً يحدث اليوم ليس فقط على مستوى الفيسبوك الذي بات بامكانه مؤخراً أن يخبرك عن نفسك أكثر مما تعرف ! (فعلاً فعلاً) بل على مستوى المأساة السورية. كل الوعود و الخطط و النقاشات لا تأتي على ذكر الحالة النفسية الاجتماعية للسوريين. المشكلة ليس أنها تدعي أن ليس لديها هذه البيانات بل الأنكى أنها لا تنتبه للمسألة برمتها. خلاصة القول: كيف يمكن إحداث تغيير من دون إدارة؟ كيف يمكن أن يكون هناك إدارة من دون قدرة على قياس قدرتها على الإنجاز؟ و كيف يمكن قياس إنجاز من دون وجود أرقام؟

نعم المسألة لا علاقة لها لا بجيش و لا بمثقفين . و هي لا حتماً لا علاقة لها باعلام أو ايمان. و من نافلة القول الحديث عن علاقة الله بما يحدث على الأرض السورية.

كل المسألة تتعلق بالإدارة. و فهم الديموغرافيا بشكل دقيق جزء من تلك الادارة . و يبدو أن السوريين لا يريدون على كافة المستويات و في طرفيهم أن يحاسبهم أحد. لهذا ليس للإدارة مكان. و الغوغائية و العبث ستظل إلى وقت غير قريب سيدة المشهد. إلى أن يفهموا أن هويتهم لا تقبع في تعريفهم لعدو آخر بل في تعريفهم لأنفسهم أولاً.

من مرسيليا إلى ركن الدين

وصلنا إلى فيلا ميديترانيه -La Villa Méditerranée – طبعاً في الطريق إليها كان الهواء قوياً كالمرات السابقة . مرسيليا معروفة بعواصفها لكن ليس في كل الأوقات. غير أنك كلما اقتربت من البحر ستشتد الريح. الريح التي لم تمنع الصبية من اللعب في الماء.

دخلنا وطُلِبَ منا خلع الجواكيت على باب المسرح، ثم الأحذية، قيل لنا أهلاً و سهلاً و أن بامكاننا أن نجلس في اي مكان. حسناً هذا ما فعلناه. اتخذنا جانباً من الأرض . هناك كراسي لكن من دون أحذية و جاكيت يبدو المرء أكثر تحرراً من أعباء الحياة. الأرض أقرب.

يبدأ العرض . ثلاث ممثلين. لست هنا للحدث بالتفصيل عن العرض رغم أنه أكثر من رائع.  لكني سأختار مقطعاً واحداً منه و سأكتب في المرة القادمة عن مقطع حيوي آخر حول الاسلام في أوروبا.

العرض ببساطة يبدأ باقتراح أننا ما دمنا في أجواء الديمقراطيات فسيتم عرض 11 قطعة مسرحية سريعة ثم علينا أن نقوم بالتصويت على القطع التي نريد أن نشتريها. على سبيل المثال هناك “تعلم الرقص من ارهابي” لكن بالمقابل “هل تريد أن تعرف لماذا نحن المسلمون هكذا؟” و بينهما أمثلة سأقص عليك واحدة منها هنا. لا يُسمح بطبيعة الحال للمرء أن يقوم بالتصويت أكثر من خمس مرات . نماذج العروض البيعية التي تحذى بأعلى ننسبة تصويت تكتسب حق التوسع فيها و شرحها . لو حدث ان جلب عرض بيع “تعلم الرقص من ارهابي” أعلى أصوات لتم عرضه مع أربع عروض أربع أخرى . هذه هي قصة العرض إذاً . بسيطة  جداً . تفاعلية جداً. لكم أن تتصوروا كيف تم عرض ال 11 قطعة أولاً و من ثم ال 5 الحائزة على أعلى أصوات في أنحاء قاعة العرض جميعهاً و ليس بشكل تقليدي في مكان واحد. الممثلون كانوا يتحركون بيننا و نتحرك معهم.

هذا هو العرض الأول لجورج و أنا في مرسيليا، كان مستحيلاً أن أفوته. رغم انه عرض ناطق بالفرنسية و العربية معاً فالممثل الأساسي مصري و لا يتحدث الفرنسية! . إنه عرض فعلاً أكثر من حيوي.

المقطع الذي اخترت أن أحدثكم عنه اليوم على الشكل التالي:

يجلس الممثلان في مواجهة الجمهور . على طاولتين و كرسيين . جنباً إى جنب . على الطاولتين جهازين كمبيوتر و جهازي اسقاط يقومان بعرض ما يقرآنه على شاشتين كبيرتين في الخلف.

عنوان القطعة: ربيع أم خريف؟

الحكاية كما يلي: يبعث الشاب المصري رسالة لصديقه (نقرأها على الشاشة مع صورة صديقه) في مصر يخبره فيها أن عليه أن يستيقظ أخيراً من وهم الربيع العربي و أن هذا خريف . ثم يأتي دور جورج. يبعث جورج لصديقه في سوريا رسالة يخبره فيها أن عليه أن يستيقظ من سباته الشتوي و أن يخرج للرييع و ألا ييأس و ألا ينتقد الثوار!

Georg

على الشاشة خلف جورج “صديقي أنا” أعز أصدقائي. الباق حتى الآن في دمشق. و رغم أني لا أتفق على الاطلاق مع جورج في جوهر النص طبعاً فقد جرى ذات الحوار بيني و بينه منذ أيام ومن دون أن أعرف انه فعلاً كان يتحدث إلي بنفس عبارات الرسالة. كنت أقول أن كل من هم في الخارح ليس من حقهم أن يقولوا “التضحية لا بد منها” و كان يرد علي بما يراه مناسباً . بكل ما كان في الرسالة التي أرسلها لصديقي في دمشق. غير مهم، ما يهم هو أن صديقي الباق في دمشق حتى الآن كانت صورته “الأعلى” في المسرح.

سأكتب عن العرض لاحقاً فهو فعلاً يستحق المشاركة لكني آسف فقد أخذتني الحكاية التي مستني أكثر من أي شيء آخر.

George 4

george 2

في الصورة قائمة التصويت .الخيار الذي حاز على أعلى نسبة تصويت 101 هو خيار لماذا نحن المسلمون هكذا. تلاها مباشرةً . ربيع أم خريف و التي تتحدث عن الربيع العربي و نالت 76 صوتاً

george3

بائعة السمك – The Fish seller

أذكر ذات يوم مضى أن أبي اصطحبني و أنا صغير السن إلى سوق السمك. و أذكر يومها أن الشرطة جاءت فقلبت “بسطات رزق” البائعين. و شاهدتُ كيف ضرب أحدهم بائعاً ب “جرزة” بقدونس على رأسه!

لم يكن الهدف الآذى فالبقدونس ليس اسمنتياً في دمشق، غير أن الغاية كانت توجيه إهانة. أذكر أن الناس كانت تُعاقَب لأنها كانت تبيع كي تكسب رزقها و تعيش بكرامة

على هذا المرفأ القديم في مرسيليا يأتي بائعو السمك يومياً. يضعون حِملَهُم على ألواح خشبية  ويبيعون صيد البحر. كل هذا طبيعي في دول تحتفل بالعمل احتفالاً. لكن الأكثر جمالاً هو ما يحدث بعد الانتهاء من بيع الأسماك. يقوم الجميع بغسل كل شيء . تنظيف المكان تماماً . والرحيل. كل شيء يعودُ نظيفاً تماماً . هذا الاتقان للعمل ليس اجتهاداً شخصياً، إنه جزء من منظومة كاملة تفهم العَمَل و تُقدِرُهُ. إنه جزء من منظومة كاملة تفهم معنى “المكان” و حقوق المُلكية فيه . هذا وطن. هؤلاء مواطنين.

في سوريا “الأسد” لم يكن هناك وطن. كانت عصابات الأسد قد سرقت كل شيء. العمَل، الشارع، المكان، الأسواق، حتى بسطات البائعين. لم تكن الدولة فقط فاشلة في تأمين فرص عمل لمواطنيها بل و جردتهُم أيضاً من المهارات الأساسية لايجاد أو خلق عمل مناسب. كُلُ شيئ يدفع نحو الأمام كان ممنوعاً. فتح محل فلافل من دون موافقة “أجهزة الاستخبارات” كان غير ممكناً. بيع الحبق على الرصيف كان ممنوعاً من دون أتاوات، قيادة تكسي لنقل الناس كان غير ممكناً من دون اتاوات، خدمة العلم لم تكن ممكنة من دون اهانات أو اتاوات، و قبل كل هذا و ذاك فالتعليم كان افنائياً لمهارات النمو. و الدين الوحيد المسموح به كان ما يُقدِس عقلية التواكل. قراءة الأبراج و الحظ الايجابي في قريب الأيام كان أفضل أصوات التسلية المسموحة في سوريا.

Fish Seller - بائعة السمك

 

العمل في سوريا بسبب نظامها السياسي-الاستخباراتي كان الحلقة الوسطى للعبور من عيشة فقر و عَوَز نحو عيشة عبودية. العمَل كان مصدر ذُل. – لأغلب فئات الشعب السوري – كان مرتبطاً القيام بأغلب الأعمال بهامش من الذل يفوق عَرض العمل نفسه. المرأة في تركيبة سوريا كانت “مُتطَلِبَة” و الرجُل كان “مُتَحَرِش” . المرأة تريد حقها البديهي في عيشة لائقة و آمنة و الرجُل يعتبر أن العمل الذي هو سبباً لتحقيق تلك العيشة اللائقة يكون دوماً متلازم مع اهانات و تضحيات من مخزون الكرامة. لهذا تربى الرجال -أغلب الرجال- و هم ينتظرون ساعة الثأر. فالفارق هائل بين عَرَق الجبين و نزيف الكرامة.

و أرى هنا في مرسيليا بعض الأوقات وجوهاً تشبهُ وجوه سوريا و وجوهاً أخرى رأيتها في لبنان. وجوه قهر . كما في منطقة الـ “نواي”. وجوه تضطر للوقوف في انحناءات الحارات الضيقة بعد أن تغيب الشمس لتعرض علي المارين “سيجارة” . وجوه مُتعبة و تكره عملها الذي يبدو لأول وهلة أنها اختارته بمحض ارادتها. لكني أرى أيضاً وجوهاً تتلألأ على حافة البحر. تبيع السمك و تغسل الطاولات المبتلة بالدماء. و تحتفل بعملها.

 

 

IMG_4254

هنا دمشق

Mobile Damascus

هنا دمشق. مرة أخرى. حيث لا يُسمعُ صوتُ الأذان. ولا تفوحُ رائحة الياسمين. هنا دمشق مرةً عاشرةً بعد المليون صدىً لصراخ أم ثكلى ربطوا فمها بقميص ابنها القتيل.

هنا دمشق مرةً لا أعلم كم رقمها حيث يبتسم رجل الأمن “العلوي جداً” على الحاجز بعينين حزينتين جداً كأنما تقولان لك وداعاً وداعاً جداً جداً.

هنا دمشق التي غادرناها جميعاً. دون أن ننتبه.

هنا دمشق . الشقيقين . هابيل و قابيل.هنا دمشق التي سحقت فيها برزة مهد ابراهيم عليه السلام. هنا دمشق التي باتت لاجئة بعد أن كانت مقصد أجمل اللاجئين:الرسول بولص

هنا دمشق مدينة الأبواب التي باتت موصدة في وجه الشمس و صوت الحب.  هنا دمشق التي غسل حنانيا بمائها بولص عطشى اليوم للحب أكثر من أي وقت مضى

هنا دمشق التي لم تعد تصلي بجانب رفات رأس يحيى بل اكتفت بشتم الدين أو احتكار الدين. هنا دمشق التي تتحدث بلغة طائفية و تنسى أن فيها المبنى الحي. ذاك الذي تحول من معبد جوبيتر إلى كنيسة ثم أخيراً إلى الجامع الأموي بعد أن صلى فيها المسلمون إلى جانب المسيحيين 70 عاماً.

هنا دمشق التي كان فيها يومها 14 كنيسة و بقي فيها يومها 14 كنيسة إذ دخلها خالد بن الوليد.

هنا دمشق التي سلمها أنطونيو لكليوبترا و هنا دمشق التي يبدو أنها قد نسيت كم دللها الامبراطور سبتيموس كرامةً لزوجته السورية جوليا دومنا

وهنا دمشق التي يبكيها فنانوها اليوم  بالألوان بعد أن كانت تمتاز بيوتها بزخرفات المعجون الملون.

هنا دمشق التي يقتلُ أطفالها و أحداثُها بعد أن كانت حاراتها تشكل منهم كتائب تذود الأذى عنها.

و دمشق التي لا تستطيع اليوم غسل دم قتلاها ولم تعد تكفي تربتها لدفنهم كانت ذات يوم مدينة النوافير والحمامات و أضرحة الأولياء و الصحابة.

هنا دمشق المكسورة بعد أن كانت قوية .. هنا دمشق التي يأكلها سلاح من كل حدب وصوب وهي التي شيد فيها الامبراطور ديوقلسيان ذات يوم مصنعاً للسلاح قبل أن يتوجه لمحاربة الفُرس! و هنا هنا أيضاً دمشق التي يسرقها الجميع اليوم بعد أن لم يجد ملك الفرس داريوس الثالث  أفضل منها كي يأتمنها على أسرته و ثرواته قبل أن يتوجه لحرب المقدونيين. هنا دمشق الآرامية . الفارسية . المقدونية . النبطية. الإغريقية. الرومانية. الأموية . الزنكية، الأيوبية، المملوكية. السلجوقية . الأتابكية. العباسية . الفاطمية.

هنا دمشق التي لو لم تنتفض على أسوارها التي شُيدَّت لحمياتها لما ولدت العقيبة و الشاغور و سوق ساروجة و كل دمشق! هنا دمشق التي لو لم يتسلل عبر أسوراها بطرس هرباً لما انتشرت المسيحية إلى العالم.. هنا دمشق التي أنشأ فيها فلسطينيون هربوا من الظلم الصليبي حي الصالحية على حافة النهر بعيداً بضعة كيلومترات عن قلبه الأموي

هنا دمشق يا أولاد الجهل … و الموت ….. دمشق التي تضج بالحياة ..

دمشق المدارس و اسواق الحرير و البزورية و سائر الحرف . هنا دمشق المحترفة

هنا دمشق السُبُل. سُبُل الماء التي تسقي الناس الحياة أيها الظمآى إلى الموت!!!

هنا دمشق التي تناقش وطنية أكرادها و هي التي دخلها صلاح الدين محرراً لها من الزنكيين.   فأقام قلعتها و صنت له تمثالاً

هنا دمشق التي ذبحها  هولاكو عام 1260

هنا دمشق التي جاءها المماليك محررين فطاب لبيبرس تشييد قصر فيها و ظل هناك إلى أن مات و دفن في ثراها

هنا دمشق التي سبب اقتتال اهلها اجتياحها من قبل تيمور لنك عام 1400 فسرق كل حرفييها لكنها سرعان ما استعادة قوتها. هنا اسوار دمشق التي أكلتها حروب و حروب فصارت اقل استعصاء و دخلها العثمانيون بيسر على يد السلطان سليم الفاتح عام 1516

هنا دمشق المليئة بالحياة .. المضيافة . موئل الحجاج في طريقهم إلى مكة. التكيات و الخانات هنا.. الباحات السماوية هنا.

السماء هنا . و الأسواق التي تضجُ بالحياة تحت تلك السماء أيضاً هنا. هنا القبور التي تتوسط الحدائق !! هنا الحدائق التي تنبتُ على أهداب الأنهار.. حفلات المولوية هنا

هنا دمشق التي قامت من زلزالها عام  1757 ومن كل الأوبئة التي تلته وراحت تقتل مئات البشر يومياً

هنا دمشق الرحبة .. الواسعة . الغامرة .. “السيفور” … الحرة…  التي كانت حتى بيوتها تفتح ذراعيها على السماء بفناءاتها الداخلية و نارنجها و بركاتها و هررها و ياسمينها

هنا دمشق التي نشأت أولى بيوتها الفخمة خارج أسوارها.. في تأكيد جديد منها على أن كل تمرد على القيود محمود و في ثورة منها على كل الشروط بما في ذلك الأمنية منها

هنا دمشق التي دمر الغزاة ثلثيها و قتل الطاعون ربع سكانها و ظلت حية ترزق

هنا دمشق التي قد يتسلل إليها الوحوش تحت أعتاب الظلام كما فعل الوهابيون عام 1810 لكنها سرعان ما تطردهم  من بين جنباتها كما فعل محمد علي باشا عام 1812

هنا دمشق التي لم يرضى شعبها بأتاوات تلبس ثوب ضرائب  فأشعل أهل الميدان ثورتهم عام 1831

هنا دمشق التي جاءها ابراهيم باشا ابن منقذها من الوهابيين ليستنزف مواردها و يفرض الضرائب و يمول سلاحه و يفرض التجنيد الاجباري و  يحول جامعها إلى مضنع  للبسكويت. هنا دمشق التي جاءها من ينقذها من الوهابيين فإذا بدروزها يقتلون مسيحييها. ثم ينضم لهم حراسٌ سنة فيقتلون بدل من أن يذودوا عن المسيحيين. لكن هنا دمشق ذاتها التي لم يمس فيها مسيحي من سكان حي الميدان بأذى في تلك الاضطرابات. دمشق التي قتل شعبها بعضه باسم الدين لكن الحقيقة أن ذلك كان بسبب القهر و الظلم الاجتماعي و الاقتصادي.

هي دمشق التي يأتيها المحررون فيتحولوا إلى محتلين

دمشق التي هب من جبل الدروز فيها سلطان باشا الأطرش لتنتشر الثورة في وجه الفرنسيين الذين سارعوا لقصفها

هنا دمشق الترامواي. الذي يربط الصالحية بالمهاجرين بالميدان مروراً بساحة المرجة و متفرعاً نحو باب توما عبر شمالي نهر بردى

إنها دمشق التي جلبت عليها طيبة قلبها و سحر عينيها كل الطامعين.  إنها دمشق التي حطمت أسوارها و سمحت باستباحتها باقتتال أهلها.

و هي دمشق التي بقيت وكبرت و ازدهرت. هنا دمشق التي ستبقى و تكبر و تزدهر و تزداد ألقاً كلما تقدم العمر بها

هنا دمشق

Facebook